عبد النبي النديم يكتب: «الدب الروسي» هل فقد عقله أم بلغ سن الرشد ؟

عبد النبي النديم
عبد النبي النديم

استيقظ العالم اليوم على ميلاد جديد لزعامة العالم، بعملية عسكرية روسية على اوكرانيا ، لتقلب موازين القوى في العالم، فى اصرار من الدب الروسي لاستعادة عرشه المفقود منذ سقوط الاتحاد السوفيتى عام ١٩٩١،  بعد أن سيطرة سياسة القطب الأوحد الأمريكى خلال العقود الماضية، على مقدرات الدول عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لتنفرط حبة جديدة من عقد السيطرة الامريكية فى مختلف المجالات، لتتهاوى سيطرتها وسطوتها على الدول.


ففي الوقت الذى كانت أمريكا تتعالى بعنجهية على الدول بقرارات منفردة، بدأ بساط الهيمنة ينسحب من تحت اقدامها شيئا فشيئا، ولنا فى ثوارات الربيع العربى مثالا صارخا، فقد حاولت أمريكا تنفيذ مخططها بمشروع الشرق الأوسط الجديد، لتفرض أوامرها على الحكومات، تحت ذريعة الديمقراطية، وتلوح تارة بالتدخل العسكرى ، وتارة بالعقوبات الاقتصادية، وبالفعل نحجت فى زرع عدم الاستقرار وإسقاط الحكومات في بعض الدول التى تعانى حتى الآن، استخدمت فيها واشنطن حروب الجيل الرابع والخامس، بعد أن فشلت عسكريا فى الكثير من الدول مثل العراق وافغانستان، وعلى الرغم من سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العراق وافغانستان إلا أن الخسارة الأمريكية كانت كبيرة سواء فى الجنود او في المعدات، فتوجهت إلى أسلوب الحروب العصرية فى بلاد الربيع العربي، من خلال منظمات المجتمع المدني وتجنيد المنظمات الأهلية والجماعات الارهابية لإسقاط أنظمة الحكم فى الشرق الأوسط.


وأثناء دوران رحى حروب الجيل الرابع والخامس الأمريكي والغربي في الشرق الأوسط ، كان هناك فى الطرف الأخر من العالم عملاقان يعدان خططهما لاعادة التوازن إلى موازيين القوي ، فكان التنين الصينى يسيطر شيئا فشيئا اقتصاديا ، فزرع شركاته فى جميع انحاء قارات العالم، وانتصر فى الحرب الاقتصادية مع الولايات الامريكية، وأجبر واشنطن للخضوع لشروطه ، واسقط الهيبة الاقتصادية الامريكية ، وكانت البداية لترويض الأسد الامريكي الذى اصبح فى حالة شبه فقدان للتوازن ، وأصبحت القرارات الامريكية الاقتصادية مرتعشة، وتواجه بحسم من قبل دول العالم، ورغم أن واشنطن تملك بناصيتها قرارات التوزيع والتحكم فى مصادر الطاقة فى العالم، بمخزونها من احتياطات البترول، وسياساتها للتحكم في اسعار الوقود، الا ان الكيانات المناظرة والتجمعات الدولية كان لها مفعول السحر فى التخفيف من حدة القرار الامريكى وتحكمه فى مقادير اسعار الطاقة، حيث قام العملاق الصيني بنصب شباكه للسيطرة الاقتصادية فى العالم، بتنوع مصادر الوقود.


وهناك وعلى مرأى ومسمع من العالم، كان الدب الروسي يكسب أرضا جديدة للسيطرة العسكرية ، وإعادة الهيبة للكيان الروسي الجديد، وعمل على استقرار الأوضاع بالمنطقة، ويرسخ أقدامه كقوة لا يستهان بها، بعلاقات استراتيجية في مختلف المجالات مع دول الاتحاد السوفيتي السابق، وبدأ يمد ذراعه لأبعد من ذلك بالدخول بقوة لعدم إسقاط نظام بشار الأسد فى سوريا، حتى لا يتم تنفيذ المخطط الأمريكى بها كما حدث بتونس وليبيا، وبالفعل كانت تجربة قوية أثبتت أن الدب الروسي استعاد هيبته، وأصبح قادر على المواجهة، فبدأ التواصل مع التنين الصينى والقارئ الافريقية ودول جنوب آسيا، وبدأ الدب الروسي يكسر عن أنيابه ليستعيد دوره كقطب ثاني في العالم، ولكن أين تكمن أداة إثبات هيمنة الدب الروسي على الأمور فى العالم ليؤكد بما لا يدع مجالا للشك ليعترف العالم بدوره الجديد.


في البداية سيطر الدب الروسي على أوروبا بمد خطوط الغاز الطبيعي عبر الأراضي الأوكرانية نورد ستريم،  ليتبعها بالخط الثاني عبر بحر البلطيق نورد ستريم ٢ ليصل لألمانيا ومن بعدها باقي الدول الأوروبية، لتسيطر روسيا على أكثر من ٧٠ % على مصادر الطاقة للاتحاد الأوروبي، من الغاز الطبيعي، ليتم التحكم بشكل شبه كامل على مختلف القرارات الخاصة بتوفير الغاز الطبيعي والتحكم في أسعاره، ليكون الغاز الطبيعي السلاح الروسي للتحكم فى الاتحاد الاوروبي، ويتحكم فى القرار الأوروبي بشكل ملحوظ، فاحرص كل الدول الأوربية على العلاقات الجيدة مع الدب الروسي.


ليبدأ الدب الروسي مرحلة جديدة بضم شبة جزيرة القرم، فى مارس ٢٠١٤ والتي كانت جزء من الأراضي الأوكرانية،  ضمن الاتحاد السوفيتي، بتدخل عسكري من الاتحاد الروسي، الذى حدث فى أعقاب الثورة الأوكرانية فى ٢٠١٤، بعد خلع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي للرئيس الروسي بوتين.


وادانت أوكرانيا ورؤساء حكومات العالم، الضم والأحياء الذى قامت به روسيا، واعتبرت انتهاكا للقانون الدولي، والاتفاقيات الموقعة من قبل روسيا للمحافظة على الوحدة الاقليمية لاوكرانيا.


وما أشبه الليلة بالبارحة، ولكن هذه المرة كان القرار الروسي لاستعادة مكانته فى العالم، بحشد قواته على الحدود الاوكرانية، لتبدأ المناوشات ليلاهب الدب الروسي لعبته التى اجادها، وبدأ في إرسال رسالة مخابراتية لتثير الحفيظة الامريكية وحلفاءها من الدول الأوروبية وحلف الناتو ، وتلوح بسلاح العقوبات الاقتصادية ضد روسيا ، التي لم توقف مسيرة الدب الروسي لتحقيق هدفه الذي يسعى لتحقيقه، لاستعادة سيطرته وهيبته العالمية ليعود العالم بقطبيه، بعمليه عسكرية أطاحت بكل المساعدات الأمريكية والاوربية لاوكرانيا، ليقضي على مفاصل الدولة العسكرية الوهمية التى بنيت على الوعود الأمريكية باوكرانيا ومدها بالسلاح والمعدات العسكرية، التى سقطت بشكل درامى امام عملية عسكرية روسية ليخرج الرئيس الأوكراني صارخا ويطلب من العالم مواجهة الغزو الروسي.


ولكن هيهات .. هيهات لقد خرج الدب الروسي من كهفه، متسلاحا بعقود من الزمن خطط فيها لاستعادة مكانته فى العالم، بقيادة الثعلب الروسي الذى حير العالم بعقليته المخابراتية وخلفيته العسكرية، وإدارته الاقتصادية المتميزة، ليجلس على عرش القطب الشرقي من العالم وضعا قدم فوق الاخرى ، ليملي شروطه على من يحاولوا النيل من هيبته، ممسكا بزمام الأمور باقتدار، ضاربا عرض الحائط بكل العقوبات التى يلوح بها القطب الغربي.


فالعملية العسكرية الروسية في اوكرانيا تعد من قبيل شهادة ميلاد من جديد لميلاد القطب الغربي للعالم الذي استعاد قوته امام العالم، وأن الادنات الدولية للعملية العسكرية التى تزعم أن الدب الروسي فقد عقله، لن توثر فى مسيرته التى رسمها لاستعادة عرشه إلا بتحقيق شروطه.